فصل: حوادث سنة خمس وسبعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر وفاته ومبلغ سنه وصفته وأولاده

كانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول وقيل لست عشرة منه وقيل كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وقيل كان أربعة عشر شهرًا وكان عمره ستًا وعشرين سنة وقيل ثلاثًا وعشرين سنة وصلى عليه الرشيد‏.‏

وكانت كنيته أبا محمد وأمه الخيزران أم ولد ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه‏.‏

وكان طويلا جسيمًا أبيض مشربًا حمرة وكانت بشفته العليا نقص وتقلص‏.‏

وكان له من الأولاد تسعة‏:‏ سبعة ذكور وابنتان فمن الذكور جعفر وهوالذي كان يريد البيعة له والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم لأمهات أولاد والابنتان أم عيسى كانت عند المأمون وأم العباس وكانت تلقب نونة‏.‏

  ذكر بعض سيرته

تأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام فقال له الحراني‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن العامة لا تحتمل هذا فقال لعلي بن صالح‏:‏ إيذن للناس علي بالجفلى لا بالنقري فخرج من عنده ولم يفهم قوله ولم يجسر على مراجعته فأحضر أعرابيًا فسأله عن ذلك فقال‏:‏ الجفلى أن تأذن لعامة الناس فأذن لهم فدخل الناس عن آخرهم ونظر في أمورهم إلى الليل فلما تقوض المجلس له علي بن صالح ما جرى له وسأله مجازاه الأعرابي فأمر له بمائة ألف درهم فقال علي‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إنه أعرابي ويغنيه عشرة آلاف‏.‏

فقال‏:‏ يا علي أجود أنا وتبخل أنت‏!‏ وقيل‏:‏ خرج يومًا إلى عيادة أمه الخيزران وكانت مريضة فقال له عمر بن ربيع‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ألا أدلك على ما هو أنفع لك من هذا تنظر في المظالم‏.‏

فرجع إلى دار المظالم وأذن للناس وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها‏.‏

وقيل‏:‏ كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي قال‏:‏ فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه وحبسهم صيانة له عنهم فكنت أفعل وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم ولا أفعل فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف فاستحضرني يوما فدخلت إليه متحنطًا متكفنًا وهوعلى كرسي والسيف والنطع بين يديه فسلمت فقال‏:‏ لا سلم الله عليك‏!‏ أت ذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه فلم تجبني وفي فلا وفلان فعدد ندماءه فلم تلتفت إلى قولي‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏!‏ أفتأذن في ذكر الحجة قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي وأمرتني بما أمر فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك فاتبعت أمره وخالفت أمرك قال‏:‏ لا‏!‏ قلت‏:‏ فكذلك أنا لك وكذا كنت لأبيك‏.‏

فاستدناني فقبلت يده ثم أمر لي بالخلع وقال‏:‏ وليتك ما كنت تتولاه فامض راشدًا‏!‏ فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره وقلت‏:‏ حدث يشرب والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه‏.‏

قال‏:‏ فإني لجالس وعندي بنية لي والكانون بين يدي ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأطعم الصبية وآكل وإذا بوقع الحوافر فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعها ولكثرة الضوضاء فقلت‏:‏ هذا ما كنت أخافه‏.‏

وإذا الباب قد فتح وإذا الخدم قد دخلوا وإذا الهادي في وسطهم على دابته فلما رأيته وثبت فقبلت يده ورجله وحافر دابته فقال لي‏:‏ يا أبا عبد الله‏!‏ إني فكرت في أمرك فقلت يسبق إلى وهمك أنني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا حسن رأيي فيك فيقلقك ذلك فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك فيزول خوفك‏.‏

فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ فأكل ثم قال‏:‏ هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها فقال‏:‏ هذه لك فاستعن بها على أمرك واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري ثم انصرف‏.‏

قيل‏:‏ وكان يعقوب بن داود يقول‏:‏ ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى بن ماهان فأنه دخل إلي الحبس وقال لي‏:‏ أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط‏.‏

فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مسًا إلى أن عد مائة سوط ثم خرج فقال‏:‏ فقال له الهادي‏:‏ ما صنعت به قال‏:‏ صنعت الذي أمرتني به وقد مات الرجل‏.‏

فقال الهادي‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون فضحتني والله عند الناس يقولون‏:‏ قتل يعقوب بن داود فلما رأى شدة جزعه قال‏:‏ هو والله حي يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ الحمد لله على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ كان إبراهيم بن سلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة فمات له ولد فأتاه الهادي يعزيه فقال له‏:‏ يا إبراهيم‏!‏ سرك وهو عدو وفتنة وحزنك وهو صلاة ورحمة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما بقي مني جزء فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم‏.‏

قيل‏:‏ كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري قد تزوج رقية بنت عمروالعثمانية وكانت قبله تحت المهدي فبلغ ذلك الهادي فأرسل إليه وحمل إليه وقال له‏:‏ أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين قال‏:‏ ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأما غيرهن فلأن ولا كرامة فشجه بمحضرة كانت في يده وجلده خمسمائة سوط وأراده أن يطلقها أن فلم يفعل وكان قد غشي عليه من الضرب وكان في يده خاتم نفيس فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه فقبض على يده فوقها فصاح وأتي الهادي فأراه يده فغضب وقال‏:‏ تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت قال‏:‏ سله واستحلفه أن يصدقك ففعل‏.‏

فأخبره الخادم وصدقه فقال‏:‏ أحسن الله أشهد أنه ابن عمي ولولم يفعل ذلك لانتفيت منه‏.‏

وأمر بإطلاقه‏.‏

قيل‏:‏ وكان المهدي قد قال للهادي يوما وقد قدم إليه زنديق فقتله وأمر بصلبه‏:‏ يا بني إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة يعني أصحاب ماني فإنها تدعوالناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجأن ثم تخرجها إلى عبادة اثنين‏:‏ أحدهما النور والآخر الظلمة ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور فارفع فيها الخشب وجرد السيف فيهأن وتقرب بأمرها إلى الله فإني رأيت جدي العباس رضي الله عنه في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين‏.‏

فلما ولي الهادي قال‏:‏ لأقتلن هذه الفرقة‏.‏

وأمر أن يهيأ له ألف جذع‏.‏

فمات بعد هذا القول بشهرين‏.‏

قيل‏:‏ وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله وكان يدعوله بما يتكئ عليه في مجلسه وما كان يفعل ذلك بغيره وكان يقول له‏:‏ ما استطلت بك يومًا ولا ليلأن ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضهأن فقال الحاجب‏:‏ هذا ليس إلي فانطلق إلى صاحب التوقيع وإلى الديوان فبيمنا الهادي في مستشرف له ببغداد رأى دأب وليس معه إلا غلام واحد فقال للحراني‏:‏ ألا ترى ابن دأب ما غير حاله وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه فقال‏:‏ إن أمرتني عرضت له بالحال‏.‏

فقال‏:‏ لأن هوأعلم بحاله‏.‏

ودخل ابن دأب وأخذ في حديثه فعرض له الهادي بشيء وقال‏:‏ أرى ثوبك غسيلا وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد‏.‏

فقال‏:‏ باعي قصير‏!‏ فقال‏:‏ وكيف وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك فقال‏:‏ ما وصل إلي شيء‏.‏ فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال‏:‏ عجل الساعة ثلاثين ألف دينار فأحضرت وحملت بين يديه‏.‏

  ذكر خلافة الرشيد بن المهدي

وفي هذه السنة بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي وكان عمره حين ولي اثنتين وعشرين سنة وأمه الخيزران أم ولد يمانية جرشية وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة وقيل‏:‏ ولد مستهل محرم سنة تسع وأربعين‏.‏

وكان مولد الفضل بن يحيى البرمكي قبله بسبعة أيام وأرضعت أم ابن يحيى الرشيد وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد‏.‏

ولما مات الهادي كان يحيى بن خالد البرمكي محبوسا في قول بعضهم وكان الهادي عازمًا على قتله فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة فأرسل الرشيد إلى يحيى فأخرجه من الحبس واستوزره وأمر بإنشاء الكتب إلى الأطراف بجلوسه للخلافة وموت الهادي‏.‏

وقيل‏:‏ لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهونائم في فراشه فقال له‏:‏ قم يا أمير المؤمنين‏!‏ فقال‏:‏ كم تروعني إعجابًا منك بخلافتي فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه فبيمنا هويكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود فسماه عبد الله وهوالمأمون ولبس ثيابه وخرج فصلى على الهادي بعيساباذ وقتل أبا عصمة وسار إلى بغداد‏.‏

وكان سبب قتل أبي عصمة أن الرشيد كان سائرًا هو وجعفر بن الهادي فبلغا قنطرة من قناطر عيساباذ فقال له أبوعصمة‏:‏ مكانك حتى يجوز ولي العهد‏!‏ فقال الرشيد‏:‏ السمع والطاعة للأمير‏!‏ ووقف حتى جاز جعفر فكان هذا سبب قتله‏.‏

ولما وصل الرشيد إلى بغداد وبلغ الجسر دعا الغواصين وقال‏:‏ كان المهدي قد وهب لي خاتمًا شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل فأتاني رسول الهادي يطلب الخاتم وأنا هاهنا فألقيته في الماء فغاصوا عليه وأخرجوه فسر به‏.‏

ولما مات الهادي هجم خزيمة بن حازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه وقال له‏:‏ لتخلعنها أولأضربن عنقك فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة وأظهر جعفرًا للناس فأشهدهم بالخلع وأحل الناس من بيعتهم فحظي بها خزيمة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها ولد الأمين واسمه محمد في شوال فكان المأمون أكبر منه‏.‏

وفيها استوزر الرشيد يحيى بن خالد وقال له‏:‏ قد قلدتك أمر الرعية فاحكم فيها بما ترى واعزل من رأيت واستعمل من رأيت ودفع إليه خاتمه‏.‏

فقال إبراهيم الموصلي في ذلك‏:‏ ألم تر أن الشمس كانت سقيمة فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندي فهارون واليها ويحيى وزيرها وكان يحيى يصدر عن أمر الخيزران أم الرشيد‏.‏

وفيها توفي يزيد بن حاتم المهلبي والي إفريقية واستخلف عليها ابنه داود وانتقضت جبال باجة وخرج فيها الإباضية فسير إليهم داود جيشا فظفر بهم الإباضية وهزمزهم فجهز إليهم جيشًا آخر فهزمت الإباضية فتبعهم الجيش فقتلوا منهم فأكثروا وبقي داود أميرًا إلى أن وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة على ساكنها السلام واستعمل عليها إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها ظهر من كان مستخفيا منهم طباطبا العلوي وهوإبراهيم بن إسماعيل وعلي بن الحسين بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروا منهم‏:‏ يونس بن فروة ويزيد بن الفيض‏.‏

وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزًا واحدا وسميت العواصم وأمر بعمارة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس‏.‏

وحج بالناس الرشيد وقسم بالحرمين عطاء كثيرًا وقيل إنه غزا الصائفة بنفسه وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله البكائي‏.‏

وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة موسى بن عيسى وعلى البصرة والبحرين واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي وكان على خراسان الفضل بن سليمان الطوسي وعلى الموصل عبد الملك‏.‏

وفيها أوقع عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ببرابر نفزة فأذلهم وقتل فيهم‏.‏

وفيها أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة وكان موضعه كنيسة وأخرج عليه مائة ألف دينار‏.‏

  ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي

وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس في ربيع الآخر وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة وهوأصح وكان مولده بأرض دمشق وفيها بالعلياء من ناحية تدمر سنة ثلاث عشرة ومائة وكان موته بقرطبة وصلى عليه ابنه عبد الله وكان عهد إلى ابنه هشام وكان هشام بمدينة ماردة واليًا عليها وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن وهوالأكبر بطليطلة واليًا عليها فلم يحضرا موت أبيهما وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي وأخذ البيعة لأخيه هشام وكتب إليه بنعي أبيه وبالإمارة فسار إلى قرطبة‏.‏

وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثًا وثلاثين سنة وأشهرا وكانت كنيته أبا المطرف وقيل‏:‏ أبا سليمان وقيل‏:‏ أبا زيد وكان له من الولد‏:‏ أحد عشر ذكرا وتسع بنات وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية‏.‏

وكان أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم أعور له ضفيرتان وكان فصيحًا لسنا شاعرا حليما عالما حازما سريع النهضة في طلب الخارجين عليه لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمور إلى غيره ولا ينفرد في الأمور برأيه شجاعًا مقدامًا بعيد الغور شديد الحذر سخيأن جوادأن يكثر لبس البياض وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبط المملكة‏.‏

وبنى الرصافة بقرطبة تشبهًا بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة فقال‏:‏ تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت‏:‏ شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يسح ويستمري السماكين بالوبل وقصده بنوأمية من المشرق فمن المشهورين‏:‏ عبد الملك بن عمر بن مروان وهوقعدد بني أمية وهوالذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس على ما تقدم وكان معه أحد عشر ولدًا له‏.‏

  ذكر إمارة ابنه هشام

كان عبد الرحمن قد عهد إلى ابنه هشام ولم يكن أكبر ولده فإن سليمان كان أكبر منه وإمنا ولما توفي أبوه كان هوبماردة متوليًا لها وناظرًا في أمرهأن وكان أخوه سليمان وهوأكبر منه بمدينة طليطلة وكان يروم الأمر لنفسه ويحسد أخاه هشامًا على تقديم والده له عليه وأضمر له الغش والعصيان وكان أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي حاضرًا بقرطبة عند والده‏.‏

فلما توفي جدد عبد الله البيعة لأخيه هشام بعد أن صلى على والده وكتب إلى أخيه هشام يعرفه موت والده والبيعة له فسار من ساعته إلى قرطبة فدخلها في ستة أيام واستولى على الملك وخرج عبد الله إلى داره مظهرًا لطاعته وفي نفسه غير هذأن وسن ذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر الصحصح الخارجي

وفيها خرج الصحصح الخارجي بالجزيرة وكان عليها أبوهريرة فوجه عسكرًا إلى الصحصح فلقوه فهزمهم وسار الصحصح إلى الموصل فلقيه عسكرها بباجرمى فقتل منهم كثيرأن ورجع إلى الجزيرة فغلب على ديار ربيعة فسير الرشيد إليه جيشًا فلقوه بدورين فقتلوه وعزل الرشيد أبا هريرة عن الجزيرة‏.‏

  ذكر قتل روح بن صالح

وفيها استعمل الرشيد على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني وهومن قواد الموصل فجرى بينه وبين تغلب خلاف فجمع جمعا وقصدهم فبلغهم الخبر فاجتمعوأن وساروا إلى روح فبيتوه فقتل هو وجماعة من أصحابه فسمع حاتم بن صالح وهوبالسكير فجمع جمعًا كثيرأن وسار إلى تغلب فبيتهم وقتل منهم خلقًا كثيرأن وأسر مثلهم‏.‏

وفيها عزل الرشيد بن الملك بن صالح الهاشمي عن الموصل واستعمل عليها إسحاق بن محمد‏.‏

  ذكر استعمال روح بن حاتم على إفريقية

وفيها استعمل الرشيد على إفريقية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة لما بلغه وفاة أخيه يزيد بن حاتم بهأن على ما ذكرناه فقدمها في رجب وكان داود بن يزيد أخيه على إفريقية فلما وصل عمه روح ساد داود إلى الرشيد فاستعمله‏.‏

قال روح‏:‏ كنت عاملًا في فلسطين فأحضرني الرشيد فوصلت وقد بلغه موت أخي يزيد فقال‏:‏ أحسن الله عزاءك في أخيك وقد وليتك مكانه لتحفظ صنائعه ومواليه‏.‏

فسار إليهأن ولم تزل البلاد معه آمنة ساكنة من فتنة لأن أخاه يزيد كان قد أكثر القتل في الخوارج بإفريقية فذلوا‏.‏

ثم توفي روح بالقيروان ودفن إلى جانب قبر أخيه يزيد وكانت وفاته في رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ولما استعمل المنصور يزيد بن حاتم على إفريقية استعمل أخاه روحًا على السند فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد باعدت ما بين قبريهما فتوفي يزيد بالقيروان ثم وليها روح فتوفي بها ودفن إلى جانب أخيه يزيد‏.‏

وكان روح أشهر بالشرق من يزيد ويزيد أشهر بالغرب من روح لطول مدة ولايته وكثرة خروجه فيها والخارجين عليه‏.‏

  ذكر عدة حوادث

فيها قدم أبوالعباس الفضل بن سليمان الطوسي من خراسان واستعمل الرشيد عليها جعفر بن محمد بن الأشعث فلما قدم خراسان سير ابنه العباس إلى كابل فقاتل أهلها حتى افتتحهأن ثم افتتح سانهار وغمن ما كان بها‏.‏

وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ وكان على الجزيرة فوجه إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلى بغداد وقتله‏.‏

وفيها أمر الرشيد بإخراج الطالبيين من بغداد إلى مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلا العباس وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبوخالد المروروذي‏.‏

وفيها قدم روح بن حاتم إفريقية‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائة

  ذكر خروج سليمان وعبد الله على هشام

في هذه السنة وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائة وهو الصحيح خرج سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أمير الأندلس عن طاعة أخيهما هشام بالأندلس وكان هشام قد ملك بعد أبيه كما ذكرناه فلما استقر له الملك كان معه أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي وكان هشام يؤثره ويبره ويقدمه فلم يرض عبد الله إلا بالمشاركة في أمره‏.‏

ثم إنه خاف من أخيه هشام فمضى هاربًا إلى أخيه سليمان وهو بطليطلة فلما خرج من قرطبة أخرج هشام جمعًا في أثره ليردوه فلم يلحقوه فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحضر أخويه بهأن وكان سليمان قد جمع وحشد خلقًا كبيرأن فلما حصرهما هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلد وسار هو إلى قرطبة ليملكه أن فعلم وسار سليمان فوصل إلى شقندة فدخلها وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين ودافعين عن أنفسهم‏.‏

ثم إن هشامًا سير في أثره ابنه عميد الملك في قطعة من الجيش فلما قاربه مضى سليمان هارب أن فقصد مدينة ماردة فخرج إليه الوالي بها لهشام فحاربه فانهزم سليمان وبقي هشام على طليطلة شهرين وأيامًا محاصرًا لها ثم عاد عنه أن وقد قطع أشجارها وسار إلى قرطبة فأتاه أخوه عبد الله بغير أمان فأكرمه وأحسن إليه‏.‏

فلما دخلت سنة أربع وسبعين سير هشام ابنه معاوية في جيش كثيف إلى تدمير وبها سليمان فحاربه وخربوا أعمال تدمير ودوخوا أهلها ومن بهأن وبلغوا البحر فخرج سليمان من تدمير هارب أن فلجأ إلى البرابر بناحية بلنسية فاعتصم بتلك الناحية الوعرة المسلك فعاد معاوية إلى قرطبة‏.‏

ثم أن الحال استقر بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن تركة أبيه عبد الرحمن فسار إلى بلد البرابر فأقام به‏.‏

وفيها خرج بالأندلس أيضًا سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بشاغنت من أقاليم طرطوشة في شرق الأندلس وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه كما تقدم ودعا إلى اليمانية وتعصب لهم فاجتمع لهم خلق كثير وملك مدينة طرطوشة وأخرج عامله يوسف القيسي فعارضه موسى بن فرتون وقام بدعوة هشام ووافقته مضر فاقتتلأن فانهزم سعيد وقتل وسار موسى إلى سرقسطة فملكهأن فخرج عليه مولى للحسين بن يحيى اسمه جحدر في جمع كثير فقاتله وقتل موسى‏.‏

وخرج أيضًا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة وخرج معه جمع كثير فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقه وتغلب على تلك الناحية وقوي أمره وكان هشام مشغولًا بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها عزل الرشيد إسحاق بن محمد عن الموصل واستعمل سعيد بن سلم الباهلي وعزل الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن بن زائدة عن أرمينية واستعمل عليها أخاه عبيد الله بن المهدي‏.‏

وفيها وضع الرشيد على أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف‏.‏

وحج بالناس يعقوب بن المنصور‏.‏

وفيها مات الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهوأخوعبد الملك وتوفي سليمان بن بلال مولى ابن أبي عتيق وتوفي أبويزيد رباح بن يزيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان وكان مجاب الدعوة‏.‏

 حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها توفي محمد بن سليمان بن علي بالبصرة فأرسل الرشيد من قبض تركته وكانت عظيمة من المال والمتاع والدواب فحملوا منه ما يصلح للخلافة وتركوا مال لا يصلح‏.‏

وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئًا كبير أن ورفع الباقي إلى خزانته‏.‏

وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسدًا له ويقول‏:‏ إنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدث به نفسه يعني الخلافة وإن أمواله حل طلق لأمير المؤمنين وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر أخيه واحتج عليه بهأن ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غير جعفر فأقر بهأن فلهذا قبضت أمواله‏.‏

وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد فحمل الرشيد جنازتها ودفنها في مقابر قريش ولما فرغ من دفنها أعطى الخاتم الفضل بن الربيع وأخذه من جعفر بن يحيى بن خالد‏.‏

وفيها استقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان واستعمل عليها ابنه العباس بن جعفر وحج بالناس الرشيد أحرم من بغداد‏.‏

وفيها مات مورقاط ملك جليقية من بلاد الأندلس وولي بعده برمند بن قلورية القس ثم تبرأ من الملك وترهب وجعل ابن أخيه في الملك وكان ملك ابن أخيه سنة خمس وسبعين ومائة‏.‏

وفيها توفي سلام بن أبي مطيع بتشديد اللام وجريرية بن أسماء بن عبيد البصري ومروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبوعبد الله وكان موته بمكة فجاءة‏.‏

 حوادث سنة أربع وسبعين ومائة

وفيها استعمل الرشيد إسحاق بن سليمان على السند ومكران‏.‏

وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف وأبوه حي‏.‏

وفيها هلك روح بن حاتم وسار الرشيد آل الجودي ونزل بقردي وبازبدى من أعمال جزيرة ابن عمر فابتنى بها قصرًا‏.‏

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح‏.‏

وحج بالناس الرشيد فقسم في الناس مالًا كثيرًا‏.‏

وفيها عزل علي بن مسهر عن قضاء الموصل وولي القضاء بها إسماعيل بن زياد الدولابي‏.‏

 حوادث سنة خمس وسبعين ومائة

في هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين‏.‏

وكان سبب البيعة أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد فسأله في ذلك وقال له‏:‏ إنه ولدك وخلافته لك‏.‏

فوعده بذلك وسعى فيهأن حتى بايع الناس له بولاية العهد‏.‏

وفيها عزل الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر وولاها خالدًا الغطريف بن عطاء‏.‏

وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أقريطية وقيل غزاها عبد الملك نفسه وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن ين علي إلى الديلم فتحرك هناك وحج بالناس هذه السنة هارون الرشيد‏.‏

  ذكر ظفر هشام بأخويه ومطروح

وفيها فرغ هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس من أخويه سليمان وعبد الله وأجلاهما عن الأندلس فلما خلا سره منهما انتدب لمطروح ابن سليمان بن يقظان فسير إليه جيشًا كثيفأن وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان فساروا إلى مطروح وهوبسرقسطة فحصروه بهأن فلم يظفروا به فرجع أبوعثمان عنه ونزل بحصن طرسونة بالقرب من سرقسطة وبث سراياه على أهل سرقسطة يغيرون ويمنعون عنهم الميرة‏.‏

ثم إن مطروحًا خرج في بعض الأيام آخر النهار يتصيد فأرسل البازي على طائر فاقتنصه فنزل مطروح ليذبحه بيده ومعه صاحبان له قد انفرد بهما عن أصحابه فقتلاه واحتزا رأسه وأتيا به أبا عثمان فسار إلى سرقسطة فكاتبه أهلها بالطاعة فقبل منهم وسار إليها فنزلهأن وأرسل رأس مطروح إلى هشام‏.‏

  ذكر غزاة هشام بالأندلس

ثم إن أبا عثمان لما فرغ من مطروح أخذ الجيش وسار بهم إلى بلاد الفرنج فقصد ألية والقلاع فلقيه العدو فظفر بهم وقتل منهم خلقًا كثيرأن وفتح الله عليه‏.‏

وفيها سير هشام أيضًا يوسف بن بخت في جيش إلى جليقية فلقي ملكهم وهوبرمند الكبير فاقتتلوا قتالًا شديدأن وانهزمت الجلالقة وقتل منهم عالم كثير‏.‏

وفيها انقاد أهل طليطلة إلى طاعة الأمير فآمنهم‏.‏

وفيها سجن هشام أيضًا ابنه عبد الملك لشيء بلغه عنه فبقي مسجونًا حياة أبيه وبعض ولاية أخيه فتوفي محبوسًا سنة ثمان وتسعين ومائة‏.‏